فصل: الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا أيضاً إلى خلفاء بني أمية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث في المكاتبات الصادرة عن الأمراء من العمال وأمراء السرايا أيضاً إلى خلفاء بني أمية:

وهي في ترتيبها على ما تقدم في المكاتبات إلى الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم. وهي على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلانٍ إلى فلان:
على نحو ما تقدم في المكاتبة عنهم إلى الخلفاء من الصحابة مع زيادة الدعاء بطول البقاء.
كما كتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان في جواب كتابه الوارد عليه منه، في توبيخه له بسبب تعرضه لأنس بن مالك رضي الله عنه على ما تقدم ذكره.
لعبد الله بن عبد الملك أمير المؤمنين، أصلح الله أمير المؤمنين وأبقاه، وسهل حظه وحاطه ولا عدمناه، فقد وصلني كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وجعلني من كل مكروهٍ فداه يذكر شتمي وتوبخي بآبائي، وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من عند أمير المؤمنين أتم الله نعمته عليه، وإحسانه إليه. ويذكر أمير المؤمنين استطالةً مني على أنس بن مالك، وأمير المؤمنين أحق من أقال عثرتي، وعفا عن ذنبي، وأمهلني ولم يعجلني عند هفوتي، للذي جبل عليه من كريم طبائعه، وما قلده الله من أمور عباده. فرأي أمير المؤمنين أصلحه الله في تسكين روعتي، وإفراج كربتي، فقد ملئت رعباً وفرقاً من سطواته، وقحمات نقماته. وأمير المؤمنين أقاله الله العثرات، وتجاوز له عن السيئات، وضاعف له الحسنات، وأعلى له الدرجات أحق من صفح وعفا، وتغمد وأبقى، ولم يشمت بي عدواً مكباً، ولا حسوداً مضباً، ولم يجرعني غصصاً. والذي وصف أمير المؤمنين من صنيعته إلي، وتنويهه لي بما أسند إلي من عمله وأوطأني من رقاب رعيته، فصادقٌ فيه مجزيٌّ عليه بالشكر، والتوسل مني إليه بالولاية، والتقرب له بالكفاية. وقد خضعت عند كتاب أمير المؤمنين فإن رأى أمير المؤمنين طوقني الله بشكره، وأعانني على تأدية حقه، وبلغني إلى ما فيه موافقة مرضاته، ومد لي في أجله، أن يأمر بالكتاب إلي من رضاه، وسلامة صدره، ما يؤمنني به من سفك دمي، ويرد ما شرد من نومي، ويطمئن به قلبي فعل، فقد ورد علي أمر جليلٌ خطبه، عظيمٌ أمره، شديدٌ كربه. أسأل الله أن لا يسخط أمير المؤمنين علي، وأن ينيله في حزمه وعزمه، وسياسته وفراسته، ومواليه وحشمه، وعماله وصنائعه، ما يحمد به حسن رأيه وبعد همته. إنه ولي أمير المؤمنين، والذاب عن سلطانه، والصانع له في أمره، والسلام.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد ويتوصل منه إلى المقصود:
كما كتب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى عبد الملك بن مروان في خلافته: أما بعد، لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر. سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأمرني بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه فيما استطعت.

.الطرف الرابع في المكاتبات الصادرة عن الملوك ومن في معناهم إلى خلفاء بني العباس:

وفيها جملتان:

.الجملة الأولى في المكاتبات العامة من الملوك إلى الخلفاء:

ولها حالتان:
الحالة الأولى: ما كان الأمر عليه في ابتداء دولة بني العباس وأوساطها:
أما ابتداء دولتهم، فكان الأمر فيه على ما تقدم في مكاتبات العمال ونحوهم إلى خلفاء بني أمية، وقد تقدم تمثيله. إلا أنه زيد فيه في صدور المكاتبات سؤال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من حين رتبه المأمون في صدور الكتب، وتكنية الخليفة من حين أحدثه الأمين في كتبه على ما تقدم بيانه في المكاتبات عن الخلفاء فيما سلف وأما أوساط دولتهم من حين ظهور ملوك بني بويه غلبتهم على الأمر، فللكتاب فيه أسلوبان:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ لفلان من فلان وتصدر بالسلام:
والتحميد وسؤال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويتخلص إلى المقصود بأما بعد والرسم فيه على ما ذكره قدامة في كتاب الخراج أن يكتب: لعبد الله فلان أبي فلان باسمه وكنيته ونعته أمير المؤمنين، سلامٌ على أمير المؤمنين، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام عزه وتأييده وكرامته وحراسته، وأتم نعمته عليه، وزاد في إحسانه إليه، وفضله عنده وجميل بلائه لديه، وجزيل عطائه له. وزاد في صناعة الكتاب في السلام ورحمة الله وبركاته. قال في صناعة الكتاب: ثم يقال: أما بعد فقد كان كذا وكذا، حتى يأتي على المعاني التي يحتاج إليها. وتكون المكاتبة: وقد فعل عبد أمير المؤمنين كذا فإن زادت حاله لم يقل عبد أمير المؤمنين، فإذا بلغ إلى الدعاء ترك فضاءً وكتب: أتم الله على أمير المؤمنين نعمته وهناءه وكرامته، وألبسه عفوه وعافيته وأمنه وسلامته، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكتب يوم كذا وكذا من شهر كذا من سنة كذا.
وقال الفضل بن سهل: يدعى للخليفة: أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزه وتأييده، وأتم نعمته وسعادته وتوفيقه، وزاد في إحسانه إليه ومواهبه له. ولا يكتب إليه وجعلني فداه ويكون أول فصوله: أخبر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه أن كذا وكذا. ثم يوالي الفصول بأيده الله وأدام عزه. ونحو هذا.
وإن شئت كتبت: أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزه وتأييده وكرامته، وأتم نعمته عليه، وزاد فيها عنده وحاطه وكفاه، وتولى له ما ولاه.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في العز والسلامة، وأدام كرامته في السعادة والزيادة، وأتم نعمته في السبوغ والغبطة، وأصلحه وأصلح على يديه ونصره، وكان له في الأمور كلها ولياً وحافظاً.
وإن شئت كتبت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في أعز العز، وأدوم الكرامة والسرور والغبطة، وأتم نعمه في علوٍّ من الدرجة، وشرفٍ من الفضيلة، ومتابعٍ من العائدة، ووهب له السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
والذي كانت عليه قاعدة ملوك بني بويه فمن بعدهم إن كان الكتاب في معنى حدوث نعمةٍ من فتح ونحوه، أتي بعد ذلك بالتحميد ما بين مرةٍ واحدة إلى ثلاث مراتٍ. ويعبر المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد، وعن الخليفة بأمير المؤمنين، ويختم الكتاب بالإنهاء وما في معناه.
وهذه نسخة كتابٍ كتب به أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع لله عند فتحه الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان صاحب حلب في سنة ثلاث وستين وثلثمائة، وهي: لعبد الله الفضل الإمام المطيع لله أمير المؤمنين، من عبده وصنيعته عز الدولة ابن معز الدولة مولى أمير المؤمنين. سلامٌ على أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد، أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأدام له العز والتأييد، والتوفيق والتسديد، والعلو والقدرة، والظهور والنصرة فالحمد لله العلي العظيم، الأزلي القديم، المتفرد بالكبرياء والملكوت، المتوحد بالعظمة والجبروت، الذي لا تحده الصفات، ولا تحوزه الجهات، ولا تحصره قرارة مكان، ولا يغيره مرور الزمان، ولا تتمثله العيون بنواظرها، ولا تتخيله القلوب بخواطرها، فاطر السموات وما تظل، وخالق الأرض وما تقل، الذي دل بلطيف صنعته، على جليل حكمته، وبين بجلي برهانه، عن خفي وجدانه، واستغنى بالقدرة عن الأعوان، واستعلى بالعزة عن الأقران، البعيد عن كل معادلٍ ومضارع، الممتنع على كل مطأول ومقارع، الدائم الذي لا يزول ولا يحول، العادل الذي لا يظلم ولا يجوز، الكريم الذي لا يضن ولا يبخل، الحليم الذي لا يعجل ولا يجهل. ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، منزل الرحمة على كل ولي توكل عليه، وفوض إليه، وأتمر لأوامره، وازدجر بزواجره، ومحل النقمة بكل عدو صد عن سبيله وسننه، وصدف عن فرائضه وسننه، وحاده في مكسب يده ومسعاة قدمه، وخائنة عينه وخافية صدره، وهو راتعٌ رتعة النعم السائمة، في أكلاء النعم السابغة، وجاهلٌ جهلها بشكر آلائها، ذاهلٌ ذهولها عن طرق استبقائها، فلا يلبث أن ينزع سرابيلها صاغراً، ويتعرى منها حاسراً، ويجعل الله كيده في تضليل، ويورده شر المورد الوبيل {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} ولا يهدي كيد الخائنين.
والحمد لله الذي اصطفى للنبوة أحق عباده بحمل أعبائها، وارتداء ردائها محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعظم خطره وكرم، فصدع بالرسالة، وبالغ في الدلالة، ودعا إلى الهداية، ونجى من الغواية، ونقل الناس عن طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم، وأعلقهم بحبائل خالقهم ورازقهم، وعصمة محييهم ومميتهم، بعد انتحال الأكاذيب والأباطيل، واستشعار المحالات والأضاليل، والتهوك في الاعتقادات الذائدة عن النعيم، السائقة إلى العذاب الأليم، فصلى الله عليه من ناطقٍ بالحق، ومنقذٍ للخلق، وناصح للرب، ومودٍّ للفرض، صلاةً زاكية نأمية، رائحة غادية، تزي على اختلاف الليل والنهار، وتعاقب الأعوام والأدوار.
والحمد لله الذي انتجب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من ذلك السنخ الشريف، والعنصر المنيف، والعترة الثابت أصلها، الممتد ظلها، الطيب جناها، الممنوع حماها، وحاز له مواريث آبائه الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين، واختصه من بينهم بتطأول أمد الخلافة واستحصاف حبلها في يده، ووفقه لإصابة الغرض من كل مرمًى يرميه، ومقصد ينتحيه، وهو جل ثناؤه الحقيق بإتمام ذلك عليه، والزيادة فيه لديه. وأحمده سبحانه حمداً أبتدئه ثم أعيده، وأكرره وأستزيده، على أن أهل ركن الدولة أبا علي، وعضد الدولة أبا شجاع مولى أمير المؤمنين، وأهلني للأثرة عنده التي بذذنا فيها الأكفاء، وفتنا فيها القرناء، وتقطعت دونها أنفاس المنافسين، وتضرمت عليها أحشاء الحاسدين. وثأيٍ أرأبه، وشعثٍ ألمه، وعدو أرغمه، وزائغ أقومه، أفضل ما أولاه عباده السليمة غيوبهم، النقية جيوبهم، المأمونة ضمائرهم، المشحوذة بصائرهم، من تمكين يدٍ، وتثبيت قدم، ونصرة راية، وإعلاء كلمة، وتقريب بغية، وإنالة أمنية، وكذلك يكون من إلى ولاء أمير المؤمنين اعتزاؤه، وبشعاره اعتزازه، وعن زناده قدحه، وفي طاعته كدحه، والله وليٌ بإدامة ما خولنيه من هذه المنقبة، وسوغنية من هذه الموهبة، وأن يتوجه أمير المؤمنين في جميع خدمه الذابين عن حوزته، المنتمين إلى دعوتهن بيمن الطائر، وسعادة الطالع، ونجاح المطلب، وإدراك الأرب، وفي أعدائه الغامطين لنعمته، الناقضين مواثيق بيعته، بإضراع الخد، وإتعاس الجد، وإخفاق الأمل، وإحباط العمل، بقدرته.
ولم يزل مولانا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ينكر قديماً من فضل الله بن ناصر الدولة أحوالاً حقيقاً مثلها بالإنكار، مستحقاً من ارتكبها الإعراض، وأنا ذاهب في حفظ غيبه، وإجمال محضره، وتمحل حججه وتلفيقها، وتأليف معاذيره وتنميقها، مذهبي الذي أعم به كل من جرى مجراه من ناشيء في دولته، ومغتذٍ بنعمته، ومنتسبٍ إلى ولايته، ومشتهرٍ بصنيعته، وأقدر أن أستصلحه لأمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأصلحه لنفسه بالتوقيف على مسالك الرشاد، ومناهج السداد، وهو يريني أن قد قبل وارعوى، وأبصر واهتدى، حتى رغبت إلى أمير المؤمنين فيما شفعني متفضلاً فيه، من تقليده أعمال أبيه، والقناعة منه في الضمان بميسور بذله، وإيثاره به على من هو فوقه من كبراء إخوته وأهله.
فلما بلغ هذه الحال، ألط بالمال، وخاس بالعهد، وطرق لفسخ العقد، وأجري إلي أموراً كرهتها، ونفد الصبر مني عليها. وخفت أن أستمر على الإغضاء عنها والمسامحة فيها، فيطلع الله مني على إضاعة الاحتياط في أمرٍ قلدني أمير المؤمنين زمامه، وضمنني دركه، وإرخاء لبب رجلس قبل في الاعتماد عليه رأيي، وعول في أخذه بما يلزمه على نظري واستيفائي فتنأولته بأطراف العذل ملوحاً، ثم بأثباجه مفصحاً مصرحاً.
ورسمت لعبد أمير المؤمنين الناصح أبي طاهر أن يجد به وبوسطائه وسفرائه في حال، ويدخل عليه من طريق المشورة والرفق في أخرى، ويتنقل معه بين الخشونة التي يقفو فيها أثري، واللين الذي لا يجوز أن يحسه مني، تقديراً لانثنائه، وزوال التوائه، ففعل ذلك على رسمه في التأني لكل فاسد حتى يصلح، ولكل آب حتى يسمح، ولم يدع التناهي في وعظه، والتمادي في نصحه وتعريفه سوء عاقبة اللجاج، ومغبة الإحراج، وهو يزيد طمعاً في الأموال وشرهاً، وعمًى في الرأي وعمها، إلى أن كاد أمرنا معه يخرج عن حد الانتظار، إلى حد الرضا بالإصرار، فاستأنفت ادراع الحزم، وامتطاء العزم، ونهضت إلى أعمال الموصل وعندي أنه يغنيني عن الإتمام، ويتلقاني بالإعتاب وينقاد إلى المراد، ويتجنب طرق العناد.
فحين عرف خبر مسيري، وجدي فيه وتشميري، برز بروز المكاشف، وتجرد تجرد المواقع المواقف، وهو مع ذلك إذا ازددت منه قرباً، ازداد مني رعباً، وإذا دلفت إليه ذراعاً، نكص عني باعاً.
وتوافت إلى حضرتي وجوه القبائل من عقيلٍ وشيبان وغيرهما في الجمع الكثيف من صعاليكهما، والعدد الكثير من صناديدهما، داخلين في الطاعة، متصرفين في عوارض الخدمة.
فلما شارفت الحديثة، انتقضت عزائم صبره، وتقوضت دعائم أمره، وبطلت أمانيه ووساوسه، واضمحلت خواطره وهواجسه، واضطرب عليه من ثقاته وغلمانه من كان بهم يعتضد، وعليهم يعتمد، وبدأوا بخذلانه والأخذ لنفوسهم، ومفارقته والطلب بحظوظهم، وحصل منهم بحضرتي إلى هذه الغاية زهاء خمسمائة رجل ذوي خيلٍ مختارةٍ، وأسلحة شاكية، فصادفوا عندي ما أملوا من فائض الإحسان، وغامر الامتنان، وذكروا عمن وراءهم من نظرائهم التنزي إلى الانجذاب، والحرص على الاستئمان، وأنهم يردون ولا يتأخرون، ويبادرون ولا يتلومون.
ولما رأى ذلك، لم يملك نفسه أن مضى هارباً على طريق سنجار، منكشفاً عن هذه الديار، قانعاً من تلك الآمال الخائبة، والظنون الكاذبة، بسلامة حشاشةٍ هي رهينة غيها، وصريعة بغيها.
وكان انهزامه بعد أن فعل الفعل السخيف، وكادنا الكيد الضعيف، بأن أغرق سفن الموصل وعروبها، وأحرق جسرها واستذم إلى أهلها، وتزود منهم اللعن المطيف بن أين يمم، الكائن معه حيث خيم.
ودخلتها يومي هذا أيد الله أمير المؤمنين دخول الغانم الظافر، المستعلي الظاهر، فسكنت نفوس سكانها، وشرحت صدور قطانها، وأعلمتهم ما أمرني به أمير المؤمنين أدام الله عزه وأعلى الله أمره من تأنيس وحشتهم، ونظم ألفتهم، وضم نشرهم، ولم شعثهم، وإجمال السيرة فيهم في ضروب معاملاتهم وعلقهم، وصنوف متصرفاتهم ومعايشهم، فكثر منهم الثناء والدعاء، والله سامعٌ ما رفعوا، ومجيبٌ ما سألوا.
وأجلت حال هذا الجاهل أيد الله أمير المؤمنين عن أقبح هزيمة، وأذل هضيمه، وأسوا رأي، وأنكر اختيار، لأنه لم يلقني لقاء الباخع بالطاعة، المعتذر من سالف التفريط والإضاعة، ولا لقاء المصدق لدعواه في الاستقلال بالمقارعة، المحقق لزعمه في الثبات للمدافعة، ولا كان في هذين الأمرين بالبر التقي، ولا الفاجر الغوي، بل جمع بين نقيصة شقاقه وغدره، وفضيحة جبنه وخوره، متنكياً للصلاح، عادلاً عن الصواب، قد ذهب عنه الرشاد، وضربت بينه وبينه الأسداد، وأنزله الله منزلة مثله ممن أساء حفظ الوديعة، وجوار الصنيعة، واستوجب نزعهما منه وتحويلهما عنه.
وتأملت أيد الله مولانا أمير المؤمنين أمره بالتجريب وتصفحته على التقليب، فإذا هو الرجل الذي أطاع أبوه فيه هوى أمه، وعصى دواعي رأيه وحزمه، وقدمه من ولده على من هو آنس رشداً، وأكبر سناً، وأثبت جأشاً، وأجرأ جناناً، وأشجع قلباً، وأوسع صدراً، وأجدر بمخايل النجابة، وشمائل اللبابة.
فلما اجتمعت له أسباب القدرة والثروة، وأمكنته مناهز العزة والفرصة، وثب عليه وثبة السرحان، في ثلة الضان، وجزاه جزاء أم عامرٍ لمجيرها، إذ فرته بأنيابها وأظافيرها، واجتمع وأخوه من الأم، المرتضع معه لبان الإثم، المكنى أبا البركات، وليس بأب لها، ولا حريٍّ بشيءٍ منها على أن نشزا عنه وعقاه، وقبضا عليه وأوثقاه، وأقراه من قلعتهما بحيث تقر العتاة، وتعاقب الجناة، ثم أتبعا ذلك باستحلال دمه، وإفاضة مهجته، غير راعيين فيه حق الأبوة، ولا حانيين عليه حنو البنوة، ولا متذممين من الإقدام على مثله ممن تقدمت عند سلطانه قدمه، وتوكدت أواصره وعصمه، ولا راحمين له من ضعف شيخوخته، وذهل كبرته، ولا مصغيين إلى وصية الله إياهما به، التي نصها في محكم كتابه، وكررها في آية وبيناته إذ يقول: {اشكر لي ولوالديك إلي المصير} وإذ يقول: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}
فبأي وجهٍ يلقى الله قاتل والدٍ حدبٍ قد أمر أن لا ينهره؟ وبأي لسانٍ ينطق يوم يسأل عما استجازه فيه وفعله؟ وتالله! لو أن بمكانه عدواً لهما قد قارضهما الذحول، وقارعهما عن النفوس، لقبح بهما أن يلؤما ذلك اللؤم عند الظفر به، وأن يركبا تلك الخطة الشنعاء في الأخذ بناصيته، ولم يرض فضل الله بما أتاه إليه حتى استوفى حدود قطع الرحم، بأن تتبع أكابر إخوته السالكين خلاف سبيله، المتبرئين إلى الله من عظيم ما اكتسب، ووخيم ما احتقب، لما غضبوا لأبيهم، وامتعضوا من المستحل فيه وفيهم، فقبض على محمد بن ناصر الدولة حيلةً وغيلة، وغدراً ومكيدة، ونابذ حمدان بن ناصر الدولة منابذةً خار الله له فيها، بأن أصاره من فناء أمير المؤمنين إلى الجانب العزيز، والحرز الحريز، وأن أجرى الله على يده الحرب الواقعة بينه وبين المعروف بكنيته أبي البركات، التي لقاه الله فيها نحسه، وأتلف نفسه، وصرعه بعقوقه وبغيه، وقنعه بعاره وخزيه. وهو مع ذلك لا يتعظ، ولا ينزع ولا يقلع ولا يزدجر، إصراراً على الجزائر التي الله عنها حسيبه، وبها طليبه، والدنيا والآخرة مرصدتان له بالجزاء المحقوق عليه، والعقاب المسوق إليه.
وأعظم من هذا كله أيد الله أمير المؤمنين خطبا، وأوعر مسلكاً ولحباً، أن من شرائط العهد الذي كان عهد إليه، والعقد الذي عقد له، والضمان المخفف مبلغه عنه، المأخوذ عفوه منه، أن يتناهى في ضبط الثغور وجهاد الروم وحفظ الأطارف، ورم الأكناف، فما وفى بشيءٍ من ذلك، بل عدل عنه إلى الاستئثار بالأموال واقتطاعها، وإحرازها في مكامنها وقلاعها، والضن بها دون الإخراج في وجوهما، والوضع لها في حقوقها، وأن تراخى في أمر عظيم الروم مهملاً، واطرح الفكر فيه مغفلاً، حتى هجم في الديار، وأثر الآثار، ونكى القلوب، وأبكى العيون، وصدع الأكباد، وأحر الصدور، فما كان عنده فيه ما يكون عند المسلم القاريء لكتاب الله إذ يقول: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايتعم به وذلك هو الفوز العظيم} بل صدف عن ذكر الله لاهياً، وعدل عن كتابه ساهياً، واستفسخه ذلك البيع والعقد، وتنجزه الوعيد لا الوعد، ولاطف طاغية الروم وهاداه، وماره وأعطاه، وصانعه بمال المسلمين الذي يلزمه إن سلم دينه وصح يقينه أن ينفقه في مرابطهم، ويذب به عن حريمهم، لا أن يعكسه عن جهته، ويلفته عن وجهته، بالنقل إلى عدوهم، وإدخال الوهن بذلك عليهم. وقاد إليه من الخيل العتاق ما هو الآن عونٌ للكفر على الإيمان، ونجدةٌ للطاغية على السلطان. وكان فيما أتحفه به الخمر التي حظر الله عليه أن يشربها ويسقيها، وتعبده بأن يجتنبها ويجتويها، وصلبان ذهبٍ صاغها له وتقرب بها إليه تقرباً قد باعده الله فيه عن الإصابة والأصالة، وأدناه من الجهالة والضلالة، حتى كأنه عاملٌ من عماله أو بطريق من بطارقته.
فأما فشله عن مكافحته، ولهجه بملاطفته، فضد الذي أمره الله به في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظةً واعلموا أن الله مع المتقين}. وأما نقله ما نقل من الخيل من ديار المسلمين إلى ديار أعدائهم، فنقيض قوله عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
وأما إهداؤه الخمر والصلبان، فخلافٌ عليه تبارك اسمه، إذ يقول: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}.
كل ذلك عناداً لرب العالمين، وطمساً لأعلام الدين، وضناً بما يحامي عليه من ذلك الحطام، المجموع من الحرام، المثمر من الآثام، المقتطع من فيء الإسلام، وقد فعل الآن بي وبالعساكر التي معي ومن نضم من أولياء أمير المؤمنين الذين هم إخوته وصحبه إن كان مؤمناً وأنصاره وحزبه إن كان موقناً، من توعير المسالك وتغريق العروب، وتضييق الأقوات، واستهلال الأزواد، ليوصل إلينا الضر، ويلحق بنا الجهد، فعل العدو المبين، المخالف في الدين، فهل يجتمع في أحدٍ من المساوي أيد الله أمير المؤمنين ما اجتمع في هذا الناد العاند، والشاذ الشارد؟ وهل يطمع من مثله في حق يقضيه، أو فرض يؤديه، أو عهد يرعاه، أو ذمام يحفظه، وهو لله عاصٍ، ولإمامه مخالفٌ، ولوالده قاتل، ولرحمه قاطع؟ كلا والله! بل هو الحقيق بأن تثنى إليه الأعنة، وتشرع نحوه الأسنة، وتنصب له الأرصاد، وتشحذ له السيوف الحداد، ليقطع الله بها دابره، ويجب غاربه، ويصرعه مصرع الأثيم المليم، المستحق للعذاب الأليم، أو يفيء إلى الحق، إفاءة الداخل فيه بعد خروجه، العائد إليه بعد مروقه، التائب المنيب، النازع المستقيل، فيكون حكمه شبيهاً بحكم الراجع عن الردة، المحمول على ظاهر الشريعة، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.
فالحمد لله الذي هدانا لمراشدنا، ووقف بنا على السبيل المنجيهة لنا، والمقاصد المفضية إلى رضاه، البعيدة من سطاه.
والحمد لله الذي أعز أمير المؤمنين بالنصر، وأعطاه لواء القهر، وجعل أولياءه العالين الظاهرين، وأعداءه السافلين الهابطين، وهنأه الله هذا الفتح ولا أخلاه من أشكال له تقفوه وتتبعه، وأمثالٍ تتلوه وتشفعه، واصلاً فيها إلى ما وصل فيه إليه من حيازته مهنأ، لم يسفك فيه دمٌ، ولم ينتهك محرم، ولم ينل جهد، ولم يمسس نصب.
أنهيت إلى أمير المؤمنين ذلك، ليضيف صنع الله له فيه، إلى السالف من عوارفه عنده وأياديه، وليجدد من شكره جل وعلا، ما يكون داعياً إلى الإدامة والمزيد، مقتضياً للعون والتأييد، إن شاء الله تعالى.
وكتب يوم الجمعة لتسع ليالٍ خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وثلثمائة.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ كتابي للخليفة:
والحال على كذا وكذا ويدعى للخليفة بطول البقاء في أثناء ذلك، ويعبر الملك المكتوب عنه عن نفسه بلفظ الإفراد مع التصدير بالعبودية، ويخاطب الخليفة بأمير المؤمنين ويختم بالدعاء ونحوه كما كتب أبو الفرج الببغا عن السلطان أبي تغلب بن ناصر الدولة أحد ملوك بني حمدان بحلب وما معها، جواباً للكتاب الوارد عليه من الطائع أو المطيع بالكنية والخلع ما صورته: كتابي أطال الله بقاء أمير المؤمنين وعبد أمير المؤمنين مستديمٌ بشكر الله تعالى مدد النعم المتظاهرة عليه، والمنح المتناصرة لديه، بجميل رأيه أدام الله علوه وتقديمه معترفٌ بما طوقته به السعادة من عوارف تشريفه، متمسكٌ من الطاعة بما أحله كنف إحسانه، متوصل بالطرف إلى الاستزادة من طوله وامتنانه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمدٍ وآله الطاهرين.
ووصل كتاب أمير المؤمنين أدام الله نصره مشتملاً على فوائد الإرشاد والتوقيف، مقترناً بخصائص التكرمة والتشريف، فاقتديت من أوامره أعلاها الله تعالى بأهدى دليل، وسلكت في شكر ما اعتمدني من إيثاره أوضح سبيل، وبرزت لسائر من اختارني أيده الله لسياسته من الخاصة والعامة في الحلل الحالية بسمات تشريفه وإكرامه، متدرعاً ثوبي هديه وسكينته، ومختالاً منهما بين كنفي دفاعه ومعونته، ومتقلداً عضبه الذي هز النصر غراره، وأطلق المضاء شفاره، وعالياً على عنق الزمان، بامتطاء ما حباني به من الحملان مسترق النية بالرغبة إليه، ومستخدم النطق بالثناء عليه، ومقتصاً أثر أسلافي في خدمته وخدمة آبائه المؤمنين، من الخلفاء الراشدين، صلوات الله عليهم أجمعين، واقتفاء مذهبهم في الذب عن فئة الخلافة والمراماة دون الملة، والاجتهاد في طاعة الأئمة.
فالحمد لله الذي جعل صنائع أمير المؤمنين مستقرةً عند من يرتبطها بعلائق الشكر، ويحرسها بالتوفر على ما أفاد الإحماد وجميل الذكر، وأدام علو أمير المؤمنين! وأيدنا بعز دولته، وبسط بالتمكين قدرته، وحرس من الغير سلطانه، وقرن بنفاذ الأمر يده ولسانه، ولا أخلاه من ولي ينشيه ويصنعه، وشكور يعليه ويرفعه، وعزم يحمد أثره ويرتضيه، ورأيٍ بالتوفيق يبرمه ويمضيه، ووفقني من القيام بحقوق خدمته، والتمسك بفرائض طاعته، والمعرفة بمواقع اصطناعه وتفضله، والاعتداد بمنح إنعامه وتطوله، لما يستزيدني من أياديه وآلائه، ويحرس علي مكاني من جميل آرائه، إنه جواد كريم.
وقد آذنت من بعد وقرب برفع أمير المؤمنين أدام الله بسطته ذكري عن تعريف الاسم بنباهة الكنية، وإصدار ذلك إلى الأسماع من شريف عبارته، والإذن فيه لسائر من يذكرني بحضرته، زاد الله في جلالتها. وتقدمت بإثبات ذلك على عنوانات الكتب امتثالاً لأمره، وأخذاً بإذنه، ووقوفاً عند رسمه، عارفاً قدر النعمة والموهبة فيه. واعتددت بما أعلمنيه أمير المؤمنين من نيابة فلان عبده وما توخاه من محمود السفارة، وحسن الوساطة، ووجدت ما يجمعني وإياه من الإخلاص في ولاء أمير المؤمنين أقرب الأنساب، وأوكد الأسباب، في تأكد الألفة، وتثبيت قواعد الطاعة، والله يحرس أمير المؤمنين في كافة رعيته، وخاصة أوليائه وصنائع دولته، من اختلاف الآراء، وتشذب الأهواء، ويعينني من النهوض بمفترضات أياديه، وواجبات ما يسديه إلي ويوليه، على ما قرب منه وإليه، وأزلف عنده ولديه، بمنه ومشيئته، وحوله وقوته.
الحالة الثانية من مكاتبات الملوك إلى خلفاء بني العباس:
ما كان عليه الأمر في آخر دولتهم ببغداد.
والحال فيه مختلف، فتارةً يفتتح بالدعاء للديوان العزيز، وتارةً بالدعاء لما يعود عليه، وتارةً بالصلاةً، وتارةً بالسلام. وربما افتتحت المكاتبة بآية من القرآن الكريم مناسبة للحال.
قال المقر الشهابي بن فضل الله في كتابه التعريف: والصدر نحو العبد أو المملوك أو الخادم يقبل الأرض، أو العتبات، أو مواطيء المواقف أو غير ذلك. ويخاطب الخليفة في أثناء الكتاب بالديوان العزيز، وبالمواقف المقدسة أو المشرفة، والأبواب الشريفة، والباب العزيز، والمقام الأشرف، والجانب الأعلى أو الشريف، وبأمير المؤمنين مجردةً عن سيدنا ومولانا، ومرةً غير مجردةٍ مع مراعاة المناسبة والتسديد والمقاربة. ويختم الكتاب تارةً بالدعاء، وتارةً بطالع أو أنهى أو غيرهما مما فيه معنى الإنهاء.
قال: واختلف فيما يخاطب به المكتوب عنه عن نفسه، فكتب صلاح الدين بن أيوب الخادم وكتب بنوه والعادل أخوه المملوك وكتب الكامل بن العادل العبد وجرى على هذا ابنه الصالح. وكتب الناصر بن العزيز أقل المماليك وكتب الناصر داود أقل العبيد وكان علاء الدين خوارزم شاه يكتب الخادم المطواع وتبعه على ذلك ابنه جلال الدين، وكانت أم جلال الدين تكتب الأمة الداعية. هذا على شمم أنوف الخوارزمية وعلو شأنهم.
وعنوان هذه المكاتبات على اختلافها الديوان العزيز، العالي، المولوي، السيدي، النبوي، الإمامي، الفلاني بلقب الخلافة أدام الله أيامه، أو خلد الله أيامه، أو أدام الله سلطانه على مناسبة ما في صدر الكتاب.
ثم هو على ستة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بالدعاء للديوان العزيز:
قال في التعريف: والمراد بالديوان ديوان الإنشاء، لأن المكاتبات عنه صادرةٌ وإليه واردةٌ. قال: وسبب مخاطبتهم بالديوان الخضعان عن مخاطبة الخليفة نفسه، ويكون الدعاء للديوان بما فيه معنى دوام العز والسلطان وبسط الظل وما أشبه ذلك، مثل: أدام الله أيام الديوان العزيز، أو أدام الله سلطان الديوان العزيز، أو خلد الله أيام الديوان العزيز، أو خلد الله سلطان الديوان العزيز، وأدام الله ظل الديوان العزيز، وخلد الله ظل الديوان العزيز، وبسط الله ظل الديوان العزيز، وما أشبه ذلك.
وهذه نسخة كتابٍ كتب به القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الديار المصرية، إلى الناصر لدين الله الخليفة يومئذ ببغداد، بفتح القدس وما معه، واقتلاع ذلك من أيدي الفرنج وإعادته إلى ما كان عليه من الإسلام، وهي:
أدام الله أيام الديوان العزيز النبوي الناصري، ولا زال مظفر الجد بكل جاحد، غنياً بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على اقتناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والسيف في جفنه راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى إلا بشكرٍ واحد، ماضي حكم العدل بعزم لا يمضي إلا بنبل غويٍّ وريش راشد ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواءً إلى المرابع وأنواراً إلى المساجد، وبعوث رعبه إلى الأعداء خيلاً إلى المراقب وخيالاً إلى المراقد.
كتب الخادم هذه الخدمة، تلو ما صدر عنه مما كان يجري مجرى التباشير بصبح هذه الخدمة. والعنوان لكتاب وصف هذه النعمة، فإنه بحرٌ للأقلام فيه سبحٌ طويل، ولطف الحق للشكر فيه عبءٌ ثقيل، وبشرى للخواطر في شرحها مآرب، ويسرى للأسرار في إظهارها مسارب، ولله في إعادة شكره رضا، وللنعمة الراهنة به دوامٌ لا يقال معه: هذا مضى. وقد صارت أمور الإسلام إلى أحسن مصايرها، واستتبت عقائد أهله على بصائرها، وتقلص ظل رجاء الكافر المبسوط، وصدق الله أهل دينه، فلما وقع الشرط حصل المشروط، وكان الدين غريباً فهو الآن في وطنه، والفوز معروضاً فقد بذلت الأنفس في ثمنه، وأمر أمر الحق وكان مستضعفاً، وأهل ربعه وكان قد عيف حين عفا، وجاء أمر الله وأنوف أهل الشرك راغمة فأدلجت السيوف إلى الآجال وهي نائمة، وصدق وعد الله في إظهار دينه على كل دين، واستطارت له أنوارٌ أبانت أن الصباح عندها حيان الحين، واسترد المسلمون تراثاً كان عنهم آبقاً، وظفروا يقظةً بما لم يصدقوا أنهم يظفرون به طيفاً على النأي طارقاً، واستقرت على الأعلى أقدامهم، وخففت على الأقصى أعلامهم، وتلاقت على الصخرة قبلهم، وشفيت بها وإن كانت صخرةً كما تشفى بالماء غللهم.
ولما قدم الدين عليها عرف منها سويداء قلبه، وهنأ كفؤها الحجر الأسود ببت عصمتها من الكافر بحربه، وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حربه، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة، فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته فأنضج قلوبها بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيراً خاطر، ومن رام صفقةً رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلي غمرةً غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم فتعضها، ويضعف في أيديها مهر القوائم فتقضها، هذا إلى كون القعود لا يقضي فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب التقليد الذي تطرقه الخادم من أئمةٍ قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وخلفاء الله كانوا في مثل هذا اليوم لله يسألون، لا جرم أنهم أورثوا سرورهم وسريرهم خلفهم الأطهر، ونجلهم الأكبر، وبقيتهم الشريفة، وطلعتهم المنيفة، وعلوان صحيفة فضلهم لا عدم سواد العلم وبياض الصحيفة، فما غأبوا لما حضر، ولا غضوا لما نظر، بل وصلهم الأجر لما كان به موصولاً، وشاطروه العمل لما كان عنه منقولاً ومنه مقبولاً، وخلص إليهم إلى المضاجع ما اطمأنت به جنوبها وإلى الصحائف ما عبقت به جيوبها، وفاز منها بذكرٍ لا يزال الليل به سميرا، والنهار به بصيرا، والشرق يهتدي بأنواره، بل إن أبدى نوراً من ذاته هتف به الغرب بأن واره، فإنه نور لا تكنه أغساق السدف، وذكرٌ لا تواريه أوراق الصحف.
وكتاب الخادم هذا، وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقاً، وطارت فرقه فرقاً، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عدداً وحصى، فكلت حملاته وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان، عقوبةً من الله ليس لصاحب يدٍ بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغضت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه وطالما كانت شامخةً بالمنى أو راعفةً بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة، وطوائفه المحأمية، مجتمعةٌ على تسليم البلاد الحأمية، وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع الوافية، لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية، لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
وقد كان الخادم لقيهم اللقاة الأولى فأمده الله بمداركته، وأنجده بملائكته، فكسرهم كسرةً ما بعدها جبر، وصرعهم صرعةً لا يعيش معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل، وقتل منهم من فتكت به المناضل، وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح والكفار، وعن أصناف يخيل بأنه قتلهم بالسيوف الأفلاق والرماح الأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضاً بثار، فكم أهلة سيوف تقارضن الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم أنجم رماحٍ تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين، وكم فارسيةٍ ركض عليها فارسها السهم إلى أجلٍ فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه، وكان اليوم مشهوداً، وكانت الملائكة شهوداً، وكان الكفر مفقوداً، والإسلام مولوداً، وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنم وقوداً، وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه، وآكد وصله بالدين وعلائقه، وهو صليب الصلبوت، وقائد أهل الجبروت، وما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرضهم وكان مد اليدين في هذه الدفعة وداعة، لا جرم أنهم تهافت على نارهم فراشهم، وتجمع في ظل ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه ويرونه ميثاقاً يبنون عليه أشد عقدٍ وأوثقه، ويعدونه سوراً تحفر حوافر الخيل خندقه.
وفي هذا اليوم أسرت سراتهم، وذهبت دهاتهم، ولم يفلت معروفٌ إلا القومص، وكان لعنه الله ملياً يوم الظفر بالقتال، ويوم الخذلان بالاحتيال، فنجا ولكن كيف؟ وطار خوفاً من أن يلحقه منسر الرمح وجناح السيف، ثم أخذه الله بعد أيام بيده، وأهلكه لموعده، فكان لعدتهم فذالك، وانتقل من ملك الموت إلى مالك.
وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغا، البيضاء صنعا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة هي وعزائم أوليائها المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشارت بأنامل العذبات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا، وهذه أمصارٌ ومدن، وقد تسمى البلاد بلاداً وهي مزارع وفدن وكل هذه ذوات معاقل ومعاقر، وبحارٍ وجزائر، وجوامع ومنائر، وجموعٍ وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها ويحصد منها كفراً ويزرع إيماناً، ويحط من منائر جوامعها صلباناً ويرفع أذاناً، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد، ويبويء بعد أهل الصلبان أهل القرآن للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجارٍ ومجرور، وأن ظفر بكل سورٍ ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور. ولما لم يبق إلا القدس وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نازلها الخادم رأى بلداً كبلاد، وجمعاً كيوم التناد، وعزائم قد تألفت وتألبت على الموت فنزلت بعرصته، وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزأول البلد من جانب، فإذا أوديةٌ عميقة، ولجج وعرةٌ غريقة، وسورٌ قد انعطف عطف السوار، وأبرجةٌ قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار، فعدل إلى جهةٍ أخرى كان للمطامع عليها معرج، وللخيل فيها متولج، فنزل عليها، وأحاط بها وقرب منها، وضربت خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها، وبرز إليهم ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمةً ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها فإذا هم لا يبصرون على عبودية الخد عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل قطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرةً من شدة وانتظاراً لنجدة، فعرفهم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدم المنجنيقات، التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسها التي تضرب فلا تفارقها سهامها ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السور بأكنافه فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدم النصر نسراً من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها، فأخلى السور من السيارة، والحرب من النظارة، فأمكن الثقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده، بأنياب معوله، وحل عقده، بضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقبله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقاً فلن تبرح الأرض، وفتح في السور بابٌ سد من نجاتهم أبواباً، وأخذ نقبٌ في حجره، قال عنده الكافر {يا ليتني كنت تراباً} فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور.
وفي الحال خرج طاغية كفرهم وزمام أمرهم ابن بارزان سائلاً أن يؤخذ البلد بالسلم لا بالعنوة، وبالأمان لا بالسطوة، وألقى بيده إلى التهلكة، وعلاه ذل الملكة، بعد عز المملكة، ووطرح جبينه في التراب، وكان حيناً لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغاً من القطيعة لا يطمح إليه طرف آملٍ طامح. وقال: ها هنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحملت الحرب على ظهورهم الأوزار، بديء بهم فعجلوا، وثني بنساء الفرنج وأطفالهم فقتلوا، ثم استقلوا بعد ذلك فلم يقتل خصمٌ إلا بعد أن ينتصف، ولم يسل سيفٌ من يدٍ إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء بالأخذ بالميسور، من البلد المأسور، فإنه إن أخذ حرباً فلا بد أن تقتحم الرجال الأنجاد، وتبذل أنفسها في آخر أمرٍ قد نيل من أوله المراد. وكانت الجراح في العساكر قد تقدم منها ما اعتقل الفتكات، واعتاق الحركات، فقبل منهم المبذول عن يدٍ وهم صاغرون، وانصرف أهل الحرب عن قدرة وهم ظاهرون، وملك الإسلام خطة كان عهده بها دمنة سكان، فخدمها الكفر إلى أن صارت روضة جنان، لا جرم أن الله أخرجهم منها وأهبطهم، وأرضى أهل الحق وأسخطهم، فإنهم خذلهم الله حموها بالأسل والصفاح وبنوها بالعمد والصفاح وأودعوا الكنائس بها وبيوت الديوية والاستبارية منها كل غريبةٍ من الرخام الذي يطرد ماؤه، ولا يطرد لألاؤه، قد لطف الحديد في تجزيعه، وتفنن في توشيعه، إلى أن صار الحديد الذي فيه بأس شديدٌ، كالذهب الذي فيه نعيم عتيد، فما ترى إلا مقاعد كالرياض لها من بياض الترخيم رقراق، وعمداً كالأشجار لها من التنبيت أوراق.
وأوزع الخادم برد الأقصى إلى عهده المعهود، وأقام له من الأئمة من يوفيه ورده المورود، وأقيمت الخطبة يوم الجمعة رابع شهر شعبان، فكادت السموات يتفطرن للسجوم لا للوجوم، والكواكب ينتثرن للطرب لا للرجوم، ورفعت إلى الله كلمة التوحيد وكانت طرائقها مسدودة، وظهرت قبور الأنبياء وكانت بينهم بالنجاسات مكدودة، وأقيمت الخمس وكان التثليث يقعدها وجهرت الألسنة بالله أكبر وكان سحر الكفر يعقدها وجهر باسم أمير المؤمنين في قطبه الأقرب من المنبر، فرحب به ترحيب من بر بمن بر، وخفق علماه في حفافيه، فلو طار به سروراً لطار بجناحيه.
وكتاب الخادم وهو مجد في استفتاح بقية الثغور، واستشراح ما ضاق بتمادي الحرب من الصدور، فإن قوى العساكر قد استنفدت مواردها، وأيام الشتاء، قد مردت مواردها، والبلاد المأخوذة المشار إليها قد جاست العساكر خلالها، ونهبت ذخائرها وأكلت غلالها. فهي بلاد ترفد ولا تسترفد، وتجم ولا تستنفد، وينفق عليها ولا ينفق منها، وتجهز الأساطيل لبحرها، وتقام المرابط لبرها، ويدأب في عمارة أسوارها ومرمات معاقلها، وكل مشقة فهي بالاضافة إلى نعمة الفتح محتملة وأطماع الفرنج فيما بعد ذلك مذاهبها غير مرجئة ولا معتزلة، فلن يدعوا دعوة يرجو الخادم من الله أنها لا تسمع، ولن تزول أيديهم من أطواق البلاد حتى تقطع.
وهذه البشائر لها تفاصيل لا تكاد من غير الألسنة تتشخص، ولا بما سوى المشافهة تتلخص. فلذلك نفذنا لساناً شارحاً، ومبشراً صادحاً، ينشر الخبر على سياقته، ويعرض جيش المسرة من طليعته إلى ساقته.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح الكتاب بالدعاء لغير الديوان بما في تعظيم الخليفة:
كما كتب القاضي الفاضل عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى ديوان الخلافة ببغداد.
أسعد الله عظماء الأملاك بالانتساب إلى الخدمة الشريفة النبوية، وأوزعهم ما أمرهم به من طاعتهم، وخلد ملك الديوان العزيز النبوي ما دامت الأفلاك قائمة والنجوم ناجمة، ونقع بغمائمها غلل الآمال الحائمة، وفسر بمكارمها حلم الأماني الحالمة، ورتق بتدبيراتها المعصومة فتوق النوب المتعاظمة، وأظهر على أيدي أوليائها معجزات نصرها، وصرف الأيام والليالي بين المرضيين لله نهيها وأمرها، وأودع بركات السماء والأرض بمودعها ومستقرها.
المملوك وإن كان قد يسر الله له مذ أطلقت عذبة لسانه خدمة الدولة العباسية، فتفسح في وسيع مآثرها، وتخير من بديع جواهرها، وامتاح من نمير زواخرها، فإنه لا يعتذر عن الحصر الذي اعتراه في وصف المنعم عليه به من الخطاب الشريف، الذي لولا أن عصمة الموالاة تثبت فؤاده الخافق، وتسدد لسانه الناطق، لما تعاطى وصف ما أعطاه من كتابه المرقوم، وسبق إليه من سحابه المركوم، فإنه مما يشف عنه الأمل ناكصاً وهو كسير، وينقلب دونه البصر خاسئاً وهو حسير، ألا أن الانعام الشريف يبدأ الأولياء بما لو وكلهم إلى أمانيهم لتهيبت أن تتعاطى حظيته، ولو فوضه إلى راحتهم لنكلت عن أن تترقى نصيته، ولا غرو للسحاب أن يصافح قطره الثرى، والفجر أن يشرق نوره على عين الكرى والسرى.
فالحمد لله الذي قرب على المملوك منال الآمال، وثبت حصاة فؤاده لما لا تستقل بحمله صم الجبال، ويستنبت عن جهر الشكر بسر الأدعية، ويقتصر على ما يفضي به إلى المحاريب وإن لم يقصر عما يقصه في الأندية، ويطالع بأن مملوك الخدمة وابن مملوكها أخذ الكتاب بقوة، وشمر لخدمة أشرف خلافةٍ لأشرف نبوة، وتلقاه تلقي أبيه الأول الكلمات ورأى إطلاع الله لأمير المؤمنين على ما في ضميره من طاعته إحدى المعجزات والكرامات، وسمع المشافهة خاشعاً متصدعاً واشتمل عليها بفهمه سامياً طرفه متطلعاً.
ولقد أشبه هذا الكتاب الكريم بيعةً أخذت عليه، مد إليها يده آخذاً بكلتا يديه. والمملوك يرجو بل يتحقق أن هذا العبد المشار إليه سيوفي على سابقه من عبيد الدولة العباسية في الزمان، ويكون بمشيئة الله أسبق منهم بالإحسان.
وقد صدرت خدمتان من جهته وبعدهما تصدر الخدم، ولا يألو جهداً في الخدمتين مباشراً بيده السيف ومستنيباً عنها العلم، وله نصرة باقية في الولاء وهو غني بها عن النصير، وسريرةٌ باديةٌ في الطاعة وهو إليها أسكن منها إلى كل مشير. يعود المملوك إلى ما لا يزال يفتتح به الصلوات المفروضة، ويختتم به الختمات المعروضة، من الدعاء الصالح الذي وإن أغنى الله وليه عنه فقد أحوج ذوي العقائد السليمة إليه، لأنه مزكٍّ لأعمالهم، بل متممٌ لإسلامهم، وكيف لا يدعون لمن يدعون به يوم يدعى كل أناس بإمامهم، فيقول: جمع الله لأمير المؤمنين طاعة خلقه! وأذل رقاب الباطل سيف حقه! وجعل الله ما هو قبضته في الأخرى قبضة أمير المؤمنين في الأولى، من الأرض التي هي موطوءة كالسموات العلى، وأدام نعمه على هذه الأمة بإمامته، وأظهر كرامة نبيه عليه السلام بما يظاهره من كرامته، وعجل لمن لا يقوم بفرض ولايته إقامة قيامته، ورد بسيوفه التي لا ترد ما الإسلام ممطول به من ظلامته، وأقام به مناهج الدين لأهله، وأظهره بمظاهرته على الدين كله، حتى يلقى الله وما خلف في الدنيا كافراً، ولا ضميراً إلا بالتوحيد عامراً، ولا بلداً إلا وقد بات الإسلام به آهلاً وقد أصبح منه الكفر داثراً، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الثالث: أن يبدأ بآية من كتاب الله تعالى تناسب الحال:
كما كتب القاضي الفاضل، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الخليفة المستضيء ببغداد ببشرى بفتح بلد من بلاد النوبة والنصرة عليها: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيم} {فروحٌ وريحانٌ وجنة نعيم}. وصلاةٌ يتبعها تسليم، وكأسٌ يمزجها تسنيم وذكرٌ من الله سبحانه في الملإ الأعلى ورحمة الله وبركاته معلومةٌ من النشأة الأولى على مولانا الإمام المستضيء بالله المستضاء بأنواره، المستضاف بداره، الداعي إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم، الراعي للخلق كما يرعى النسيم النسيم، العام فضله، التام عدله، المطروق مورد فنائه، المصدوق في مورد ثنائه، المحقوق من كل ولي بولائه، ابن السادة الغر، والقادة الزهر، والذادة الحمس، والشادة للحق على الأس، سقاة الكوثر وزمزم والسحاب، وولاة الموسم والموقف والكتاب، والموصول الأنساب يوم إذا نفخ في الصور فلا أنساب، والصابرون على حساب أنفسهم فهم الذين يؤتون أجرهم بغير حساب.
مملوك العتبات الشريفة وعبدها، ومن اشتمل على خاطره ولاؤها وودها، وكانت المشاهدة لأنواره العلية التي يودها، ومن يقرن بفرض الله سبحانه فرضها، ويسابق بطاعته إلى جنةٍ وصفها الله تعالى بقوله {وجنةٍ عرضها}، يلثم وجه ترابها، ويرى على بعد دارها الأنوار التي ترى بها، ويقف لديها وقوف الخاضع، ويضع أثقال الآثام عن ظهره منها بأشرف المواضع للواضع، ويخبت إليها إخبات الطائح الطائع، ويرجو فضلها رجاء الطامح الطامع. ولولا أن الكتاب حجابٌ بينه وبين المهابة التي تحول بين المرء وقلبه، والجلالة التي هو في تعظيمها على نورٍ من ربه، لكان خاطره في قبضة الهلع أسيراً، ولا نقلب إليه البصر خاسئاً حسيراً، ولكن قلمه قد تشاجع، أن كان لسانه عن الإبانة قد راجع. فيقول: إن الله قد رفع ملة الإسلام على الملل، وكفل نصرها وكفى ما كفل، وحمى ملكها وحمل، وجعل لها الأرض في أيدي المخالفين ودائع، ومكن يده من أعناقهم فهي إما تعقد الأغلال أو تصوغ الصنائع، والحق بها قائم العمود، والسيف الكفاية لازم الغمود، والبشائر تمسك الصباح وتخلق الدجى، والخيل على طول ما تشتمل الوحى تنتعل الوجى، والأيام زاهرة، والآيات باهرة، وعزة أوليائها قاهرة، وذلة أعدائها ظاهرة، وعنايات الله لديها متواليةٌ متظاهرة، إذا تغرب اسمها يوماً عن منبرٍ أعيد إلى وطنه غدا، وإذا أوقدت نار فتنةٍ في معصيتها أوقدت في طاعتها نار هدى.
وقد كان النيل قدماً فرت عن الفرات أبناؤه، وتحصنت غلل المؤمنين عنه فلم يتغلغل إليها ماؤه، وكادت السماء لا تعينه بمطرها، والأرض لا توشيه بزهرها، والأعناق قد تقاصر دون الراجين بدو معصمها، والقلوب قد لاذت بأستار الجدار معضها، والأوثان منصوبه، والآيات مغصوبه، والتيجان بغير أكفائها من الهامات معصوبه، والدين أدياناً، والمذكرون بالآيات يخرون عليها صماً وعميانا، والعادلون بالله قد وطنوا ألسنة وصرحوا عقائد، والمعتدون قد أضلوا فعالاً وضلوا مقاصد، وكراسي خلافة الله قد ألقي عليها أجسادٌ كانت تقعد منها مقاعد، ومنابر كلمات الله قد كاد كيدهم يأتي بنيانها من القواعد، وجرت على بنوة النبوة أشد نبوه، وقصرت الأيدي فلا حد سوط ولا حد سطوه، ثم قست قلوبٌ {فهي كالحجارة أو أشد قسوهة} وغرت الأيام وما وعدت، وأوردت الهمم وما أصدرتن وطغى طوفان الطغيان ولا عاصم، وسما بناء البهتان ولا هادم، وضاقت الصدور، ورحلت بغليلها إلى القبور، وظن أن طي دولتهم معدوقٌ بالنشور، حتى إذا جلاها الله لوقتها، وأنجز جموع الضلال إلى ميعاد شتها، وأراهم آية معدلته {وما نريهم من آيةٍ إلا هي أكبر من أختها}، وجاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، {وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون}.
كانت نعمة من الله يمنها على المملوك أن انتخبه من بين أهل أرضه، وانتخبه لإقامة ما أمات الباطل من فرضه، ويسره لما يسره من نصرة الحق وأهله، وبشره بما بشره من لواء النصر ومد من ظله، وألهمه الهمة التي افترع منها بكراً، ومنحه النصرة فما يستطيع العدو صرفاً ولا نصراً. مكنه من صياصيهم فحلها، ومن دمائهم فطلها، ومن سيوفهم ففلها، ومن أقدامهم فاستزلها، ومن منابر دعاتهم فعجل تداعيها، ومن أنفس أعدائهم فأكثر تناعيها، وأبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، ويسر الذين كتب لهم العفو إلى منافعهم، ونثر خرزات الملك من تيجانها، وفضح على يده وبلسانه ما زورته من أنسابها، وحاسبها فأظهر زيف حسابها، ونقلها من ظهور أسرتها إلى بطون ترابها، وعمد إلى أهل دعوتها الذين بسقوا بسوق النخل فأعلاهم على جذوعها، وحملت قلوبهم فوف الحقد فأخرجها من أكمام طلوعها، فهل ترى لهم من باقية، أو تسمع لهم من لا غية، أو تجد إليهم من صاخية، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم أو مساكينهم، وحصدوا حصد الحشيش ثم لا تخاف سيوفهم ولا سكاكينهم. واستنزلوا من عقاب اللوح، وسجنوا في الهم من طول مداومة عقاب الروح، ثم تداركوا إلى الدرك، واشتركوا في الشرك، وأقفرت منهم عراص، وزهدت فيهم خواص، وعلم أن ليس لله غالب، وأن ليس يفوته طالب، وأن الملك لله وحده، وأن الويل لمن تجاوز أمره وحده.
وكان المملوك ممن عطل من أوثانهم، وأبطل من أديانهم، فائزاً بحسنة ينظر إلى حسنات خليل الله صلى الله عليه وسلم في كيده الأصنام وتكسيرها، وتضليله عابديها وتكفيرها. وعمد المملوك إلى المحاضر فجمعها، وإلى المنابر فرفعها، والجمعة فأطاع من شرعها، وأسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصلها باسمه وما قطعها، وعمومته رضوان الله عليهم فتلاها له واتبعها، وأشاد باسم أمير المؤمنين لتكون الصلاة جامعه، والذكرى شاملة والإمامة للجماعة شارعه، والهداية للضلالة صارعه، فعادت للملة أعياد، واخضرت للمنبر أعواد، وأنجز للأمة ميعاد.
وبعد ذلك تحاشدت أولياء الذاهبين وتنادت، وتساعت نحو مستقر المملوك وتعادت {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم} وكانوا حمية حأمية من بني حامٍ كالجراد أرجلا، إلا أن الله أصلاها بنيرانه، وكالماء مداً إلا أن الله أغرقها بطوفانه، وكالنمل لوناً وطرقاً إلا أن الله حطمها بسليمانه، مع من انضم إليهم من ألفافٍ وأطراف، وأوشاب وأوباشٍ، من جندي كسبه سيفه ذله، وطرده عن مواقف الكرام وبمحال الخزي أحله، ومن أرمني كانوا يفزعون إلى نصرة نصرانيته، ويعتمدون منه على ابن معموديته، ومن عامي أجابهم لفرط عماه وتفريط عاميته، فملأ العيون سوادهم الأعظم، ووراءهم بأس الله الذي لا يرد عمن أجرم، فأمطرتهم السيوف مطراً كانوا غثاءً لسيوله الجوارف، وعصفت بهم الأعنة عصفاً كانوا هباءً لهوجه العواصف، {فظلت أعناقهم لها خاضعين} وعوتبت الأنفس والأرؤس {فقالتا أتينا طائعين} وظلت قحاف بني حام تحت غربان الفلا غرباناً، وشوهدت ظلماتٌ بعضها فوق بعضٍ أفعالاً وألواناً، وصفت موارد السلطان من القذى، وطفيء ذلك الفحم فلا يجد النفاق بعده ما تتعلق به الجذى، وبلغت الغايات في كشف كل أذى، لا بضرب بموعدٍ يقال فيه إذا.
وكاتب المملوك، واسم أمير المؤمنين قد كتب سطره على جبين النقدين، وسمع لفظه من فم المنبرين بالبلدين، ومد كل منبر يداً بل يدين، فحين سمع الناس قالوا حقاً ما قاله ذو اليدين، وصارت تلك الأسماء دبر الآذان ووراء الظهور، وحصلت المحبة العباسية سراً من أسرار القلوب إذا حصل ما في الصدور، والخلائق مبايعة متابعة وافيةٌ بعهده متوافية، داخلون في الحق أفواجاً، سالكون منه شرعة ومنهاجاً.
والحمد لله الذي جعل أمير المؤمنين إماماً لخلقه، ووارثاً لأرضه ولم يذر فوق الأرض منازعاً لحقه، ولا مناهباً لأرضه، وارتجع له الحق الذي كان ناداً، ورد عليه الأمر الذي لم يكن له غير الله راداً، وبلغ كل مؤمن من إعلاء كلمة الإيمان به ما كان له واداً، وأخذ بيد انتقامه من كان عن سبيله صاداً، والإسلام قد استنار كنشأته، والزمان قد استدار كهيئته، والحق قد قر في نصابه، والأمر قد فر عن صوابه، فقد وفى الله القرار له بضمانه، وأخذ بيده ما روى عن ابن عمه صلى الله عليه وسلم وأصفى من لسانه.
فالحمد لله الذي صدقه وعده، وأورثه الأرض وحده، وجدد علاه وأعلى جده، وأسعد نجمه وأنجم سعده، ووعده نجحه وأنجح وعده، وأورده وصفه وأصفى ورده.
المملوك ينتظر الأمثلة ليتمثلها، والأمانة ليتحملها، والتقليدات المطاعة ليتلوها، والتشريفات الشريفة ليجلوها، والسواد ليجلي الحلك عن ضمائر المبطلين، والسيف الحالي لحكمه في رقاب المعطلين، وللآراء الشريفة فصل برهانها، وفضل سلطانها وأمرها الذي لا يخرج حين يخرج عن عز الملة وتوطيد بنيانها، وعزمها الذي يرفع حين يرفع ظلمة أدخانها. إن شاء الله تعالى.
الأسلوب الرابع: أن يبتدأ الكتاب بالصلاة:
كما كتب القاضي الفاضل، عن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الخليفة ببغداد في البشرى بفتح بلدٍ من بلاد النوبة أيضاً، وانهزام ملكها بعساكره:
صلوات الله التي أعدها لأوليائه وذخرها، وتحياته التي قذف بشهبها شياطين أعدائه ودحرها، وبركاته التي دعا بها كل موحدٍ فأجاب، وانقشع بها غمام الغم وظلام الظلم فانجاب عن أنجاب، وزكاته التي هي للمؤمنين سكن، وسلامه الذي لا يعتري الموقنين في ترديده حصرٌ ولا لكن على مولانا عاقد ألوية الإيمان، وصاحب دور الزمان، وساحب ذيل الإحسان، وغالب حزب الشيطان، الذي زلزلت إمامته قدم الباطل، وحلت خلافته ترائب الدهر العاطل، واقتضت سيوفه ديون الدين من كل غريمٍ ماطل، وأمضت غرب كل عزمٍ للحق مفلول وأطلعت غارب نجم كل هدًى آفل، وشفعت يقظات استغفاره إلى غافر ذنب كل غافل، وعلى آبائه الغاية والمفزع، والملاذ في وقت الفزع، والقائمين بحقوق الله إذ قعد الناس، والحاكمين بعدل الله إذ عدم القسطاس، والمستضيئين بأنوار الإلهام الموروثة من الوحي إذا عجز الاقتباس، والصابرين في البأساء والضراء وحين الباس، خزان الحكم، وحفاظها، ومعاني النعم، وألفاظها، وأعلام العلوم المنشورة إلى يوم القيامة، وكالئي السروح المنتشرة من كلا سديد الإمامة، ومن لا ينفذ سهم عملٍ إلا إذا شحذ بموالاتهم، ولا يتألق صبح هدايةٍ إلا إذا استصبح الساري بدلالاتهم.
المملوك يقبل الأرض بمطالع الشرف ومنازله، ومرابع المجد ومعاقله، ومجالس الجود، ومحال السجود، ومختلف أنباء الرحمة المنزلة، ومرسى أطواد البسيطة المتزلزلة، ومفتر مباسم الإمامة، ومجر مساحب الكرامة، ومكان جنوح أجنحة الملائك، ومشتجر مناسك المناسك، حيث يدخلون من كل بابٍ مسلمين، ويتبعهم ملوك الأرض مستسلمين، ومشاهد الإسلام كيومٍ أنزل فيه اليوم أكملت لكم دينكم وينعقد على الولاية فأما غيره فله قوله: قاتلوا الذين يلونكم، ويناجيها بلسان جلى الإخلاص الصادق عقيدته، وأنشط الولاء السابق عقيلته، وأرهف الإيمان الناصع مضاربه، وفسح المعتقد الناصح مذاهبه، فأعرب عن خاطرٍ لم يخطر فيه لغير الولاء خطره، وقلب أعانه على ورود الولاء أن صفاء المصافاة فيه فطره ويخبر أنه ما وهن عما أوجبته آلاؤه ولا وهى، ولا انثنى عزمه عن أن يقف حيث أظلت سدرة المنتهى، ووضحت الآيات لأولي النهى. والله سبحانه يزيل عنه في شرف المثول عوائق القدر وموانعه، ويكشف له عن قناع الأنوار التي ليست همته بما دون نظرها قانعة وكان توجه منصوراً بجيش دعائه، قبل جيش لوائه، وبعسكر إقباله، قبل عسكر قتاله، وبنصال سلطانه، قبل نصال أجفانه، لا جرم أن كتائب الرعب سارت أمام الكتائب، وقواضب الحذر غمضت في جفونها عيون القواضب وسار أولياء أمير المؤمنين الذين تجمعوا من كل أمة، وتداعوا بلسان النعمة، وتصرفوا بيد الخدمة، وصالوا بسيف العزمة، متواخيةً نياتهم في الإقدام، متآلفةً طوياتهم في طاعة الإمام، كالبنيان المرصوص انتظاماً، وكالغاب المشجر أعلاماً، وكالنهار الماتع حديداً وهاجاً، وكالليل الشامل عجاجاً عجاجاً، وكالنهر المتدافع أصحاباً، وكالمشط المطرد اصطحاباً، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهره، وغياضها المشجره، إلا دلت على أن السحاب الذي سقاهم كريم، والإنعام الذي غمرهم عظيم، والدنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم.
ولما علم العدو أن الخطب المظنون قد صرح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سل السيوف يغمده، وماكر وماكر لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هارباً هائباً، وخضع كائباً كاذباً، فمضى المملوك قدماً، وحمله ظلمه وقد خاب من حمل ظلماً، وأجابه بأنه إن وطيء البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلا أقام عليه الحد بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشره، فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبه، ولم يغره ما أملي له في البلاد من تقلبه. وسار ولم يزل مقتحماً، وتقدم أول العسكر محتدماً، وإذا الدار قد ترحل أهلها منها فبانوا، وظعنوا عن ساحتها فكأنهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيرانٍ رحلت قلوبهم بضرامها، وأثافي دهمٌ أعجلت المهابة ما رد سغبهم عن طعامها، وغربان بين كأنها في الديار ما قطع من رؤوس بني حامها، وعوافي طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرةً أنهم لبسوا الليل حداداً على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفسٍ كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالاً والعقاب عقباناً، وكانوا لمهابط الأودية سيولاً ولأعالي الشجر قضباناً، فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والعزم منهم قد نال أملهن والفتك بهم قد اعمل منصله، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزهةٌ أن تريق إلا دماء أكفائها من الأبطال، وأن تلقى إلا وجوه أنظارها من الرجال، وأن المذكورين نملٌ حطمه سليمان عليه السلام وجنوده، ورمل أطاره العاصف الذي يسحفه ويقوده وأصدر هذه الخدمة والبلاد من معرتهم عارية، والكلمة بانخفاضهم غاليةٌ عالية، ويد الله على أعدائه عادية، وأنفس المخاذيل في وثاق مهابته العالية عانية فرأى المملوك أن يرتب بعده الأمير فلاناً ليبذل الأمانات، لسوقة أهل البلاد ومزارعيها، ويفصل المحاكمات، بين متابعي السلطنة ومطاوعيها، ويفسح مجال الإحسان لمعاودي المواطن ومواجعيها، فيعمر من البلاد ما قد شغر، ويشعر بالأمنة من لا شعر، فإن مقام المملوك ومن معه من عساكر تمنع الشمس من مطلعها، وترد جرية البحر عن موقعها، مما يضر بالغلال وينسفها، ويجحف بالرعايا ويعسفها.
فالحمد لله الذي جعل النصر لائذاً بأعطاف اعتزامه، وأنامل الرعب السائر إلى الأعداء محركةً عذبات أعلامه، والعساكر المناضلة بسلاح ولائه، تغني بأسمائها عن مرهفاتها، والكتائب المقاتلة بشعار علائه، تقرأ كتب النصر من حماتها.
الأسلوب الخامس: أن يبتدأ الكتاب بالسلام:
كما كتب القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين أيضاً، يعتذر له عن تأخر الكتب، ويذكر له خبر صاحب قسطنطينية وصاحب صقيلة من ملوك النصرانية من الروم والفرنج: سلام الله الأطيب، وبركاته التي يستدرها الحضر والغيب، وزكواته التي ترفع أولياءه إلى الدرج، ونعمه التي لم تجعل على أهل طاعته في الدين من حرج على مولانا سيد الخلق، وساد الخرق، ومسدد أهل الحق، ولابس الشعار الأطهر سواداً، ومستحق الطاعة التي أسعد الله من خصه بها بدءاً ومعاداً، ومولى الأمة، الذي تشابه يوم نداه وبأسه إن ركض جواداً أو جواداً، وواحد الدهر الذي لا يثنى، وإليه القلوب تثنى، ولا يقبل الله جمعاً لا يكون لولائه جمع سلامةٍ لا جمع تكسير، ولا استقبال قبلةٍ ممن لا تكون محبته في قلبه تقيم واسمه في عمله إلى الله يسير، مولانا أمير المؤمنين، وعلى آبائه المالئي الأرض عدلاً، الملاء أهلاً وفضلاً، والضاربين فيصلاً والقائلين فصلاً، ومن تقول الجنة لأهلها بهم أهلاً، المخصوصين بالعناية الإلهية، الحاكمين فكل أمةٍ بطاعتهم مأمورةٌ وعن معصيتهم منهية، والمشرفي الأسارير على أسرة الشرف فكم ملأت البهو مناظرهم البهية.
المملوك يخدم الحرم الشريف باحترامه، والفناء الكريم بإعظامه، والبساط المقبل بطول استلامه، والستر الذي أسبله الله على العباد بتحيته وسلامه، وينهي أنه آخر الخدم عن أن ينتظم الأوقات المتجددة، ويقتضب الحالات المتجردة، والرسل عن أن تتوارد دراكا، وتتوالى وشاكا، والإنهاءات عن أن تثبت بالمقامات النبوية، ومجالس العرض العلية، ما انتهت إليه الأقدار، وما أفضى إليه من كثير المناجح وقليل الأعذار، فإن أدب الأمالي عن المطالعة كالصوم لا يفض ختامه ولا يحل نظامه، إلا بعيد يطلع هلاله مبشراً، ويبث خبره في الآفاق معطراً، فلو أن متكلفاً أفطر قبل موعده، وورد الماء قبل مورده، لكان مفسداً لعقده، ناكثاً لعهده.
كذلك المملوك أمسك حين كانت الأخبار بجانبه مشتبهة، والحقائق لديه غير متوجهة، فإن طاغيتي الكفر بقسطنطينية وصقلية كانا قد أوقدا للحرب ناراً، ورفعا لها أوزاراً، واتخذا لها أسطولاً جارياً وعسكراً جراراً، وتباريا ولم يزد الله الظالمين إلا تباراً، وكتبا إلى الفرنج بعد انهزامهم بالنجدة والنصرة، وتضمنا لهم الخروج والكرة، ويصفان ما استعدا به بما لا يعبر عنه إلا بالكثرة، واستطارت الشناعة وتداولتها الألسن، وخرجت من الأفواه حتى لقد كادت تدخل فيما رأته الأعين، وورد إلى المملوك رسولٌ من طاغية القسطنطينية وهو أقدم ملوك النصرانية قدماً، وأكثرهم مالاً منتمى، فعرض عليه موادعةً يكون بها عسكره مودعاً، ويكون له مفزعاً، له ولصاحب صقلية، الذي زعم أنه أصلٌ للشر يكون الشر منه مفرعاً، فلم يكن ولم يجب إلى السلم، ولم يزعه أن عسكره خذله الله مبارٌ في البر وفي اليم، إن شاء الله تعالى.
الأسلوب السادس: أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله:
وذلك يختص بالفتوح وغيرها مما حدث فيه نعمة، وربما بدئت بآية من كتاب الله، كما كتب العماد الأصفهاني عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الناصر لدين الله ببغداد بفتح القدس: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} الحمد لله على ما أنجز من هذا الوعد، على نصرته لهذا الدين الحنيف من قبل ومن بعد، وعلى ما أجرى هذا الحسنة التي ما اشتمل على شبهها كرام الصحائف، ولم يجادل عن مثلها في المواقف في الأيام الإمامية الناصرية زادها الله غرراً، وأوضاحا، وولى البشائر فيها بالفتوح غدواً وراحاً، ومكن سيوفها في كل مازق، من كل كافر ومارق، ولا أخلاها من سيرة سرية تجمع بين مصلحة مخلوقٍ وطاعة الخالق، وأطال أيدي أوليائها لتحمي بالحقيقة حمى الحقائق، وأنجزها الحق وقذف به على الباطل الزاهق، وملكها هوادي المغارب ومرامي المشارق، ولا زالت آراؤها في الظلمات مصابح، وسيوفها للبلاد مفاتح، وأطراف أسنتها لدماء الأعداء نوازح، والحمد لله الذي نصر سلطان الديوان العزيز وأيده، وأظفر جنده الغالب وأنجده، وجلا به جلابيب الظلماء وجدد جدده، وجعل بعد عسرٍ يسراً، وقد أحدث الله بعد ذلك أمراً، وهون الأمر الذي ما كان الإسلام يستطيع عليه صبراً، وخوطب الدين بقوله: {ولقد مننا عليك مرةً أخرى}: فالأولى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والأخرى هذه التي عتق فيها من رق الكآبة، فهو قد أصبح حراً فالزمان كهيئته استدار، والحق بمهجته قد استنار، والكفر قد رد ما كان عنده من المستعار، وغسل ثوب الليل بما فجر الفرج من أنهار النهار، وأتى الله بنيان الكفر من القواعد، وشفى غليل صدور المؤمنين برقراق ماء الموردات البوارد. أنزل ملائكة لم تظهر للعيون اللاحظة، ولم تخف عن القلوب الحافظة، عزت سيما الإسلام بمسومها، وترادف نصره بمردفها، وأخذت القرى وهي ظالمةٌ فترى مترفيها كأن لم تؤو فيها، فكم أقدم بها حيزوم، وركض فاتبعه سحاب عجاجٍ مركوم، وضرب فإذت ضربه كتاب جراحٍ مرقوم، وإلا فإن الحروب إنما عقدت سجالاً، وإنما جمعت رجالاً، وإنما دعت خفافاً وثقالاً، فإما سيوفٌ تقاتل سيوفاً، أو زحوف تقاتل زحوفاً، فيكون حد الحديد بيدٍ مذكراً وبيد مؤنثاً، ويكون السيف في اليد الموحدة يغني بالضربة الموحدة وفي اليد المثلثة لا يغني بالضرب مثلثاً، وذلك أنه في فئتين التقتا، وعدوتين لغير مودة اعتنقتا. وإن هذه النصرة إن زويت عن ملائكة الله جحدت كراماتهم، وإن زويت عن البشر فقد عرفت قبلها مقاماتهم، فما كان سيفٌ يتيقظ من جفنه قبل أن ينبهه الصريخ، ولا كان ضرب يطير الهام قبل ضربٍ يراه الناظر ويسمعه المصيخ، فكم قريةٍ كأنها هجرة الموت وبها التاريخ، وكم طعنةٍ تحز لها هضاب الحديد ولها شماريخ.
والحمد لله الذي أعاد الإسلام جديداً، ثوبه، بعد أن كان جديداً حبله، مبيضاً نصره، مخضراً نصله، متسعاً فضله، مجتمعاً شمله. والخادم يشرح من نبإ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم ما يشرح صدور المؤمنين، ويمنح الحبور لكافة المسلمين، ويكرر البشرى بما أنعم الله به من يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس منسلخه، وتلك سبع ليال وثمانية أيام حسوماً سخرها الله على الكفار {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ} ورايتها إلى الإسلام ضاحكةٌ كما كانت من الكفر باكية، فيوم الخميس الأول فتحت طبرية وفاض ري النصر من بحيرتها، وقضت على جسرها الفرنج فقضت نحبها بحيرتها. وفي يوم الجمعة والسبت كسر الفرنج الكسرة التي مالها بعدها قائمة وأخذ الله أعداءه بأيدي أوليائه أخذ القرى وهي ظالمة. وفي يوم الخميس منسلخ الشهر فتحت عكا بالأمان، ورفعت بها أعلام الإيمان، وهي أم البلاد، وأخت إرم ذات العماد، وقد أصبحت كأن لم تغن بالكفر وكأن لم تفتقر من الإسلام.
وقد أصدر هذه المطالعة وصليب الصلبوت مأسور، وقلب ملك الكفر الأسير جيشه المكسور مكسور، والحديد الكافر الذي كان في الكفر يضرب وجه الإسلام، قد صار حديداً مسلماً يفرق خطوات الكفر عن الأقدام، وأنصار الصليب وكباره، وكل من المعمودية عمدته والدير داره، قد أحاطت به يد القبضة، وأخذ رهناً فلا تقبل فيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وطبرية قد رفعت أعلام الإسلام عليها، ونكصت من عكا ملة الكفر على عقبيها، وعمرت إلى أن شهدت يوم الإسلام وهو خير يوميها، بل ليس من أيام الكفر يوم فيه خير، وقد غسل عن بلاد الإسلام بدماء الشرك ما كان يتخللها فلا ضرر ولا ضير، وقد صارت البيع مساجدهم بها من آمن بالله واليوم الآخر، وصارت المناحر مواقف لخطباء المنابر، واهتزت أرضها لوقوف المسلمين فيها وطالما، ارتجت لمواقف الكافر، والبأس الإمامي الناصري قد أمضى مشكاته على يد الخادم حتى بالدني في الكنائس، وإن عز أول الإسلام بحط تاج فارس، فكم حطت سيوفه في هذا اليوم من تاج فارس! فأما القتلى والأسارى، فإنها تزيد على ثلاثين ألفاً.
وأما فرسان الديوية والاستبارية فقد أمضى الله حكمه فيهم وقطع بهم سيوف نار الجحيم، ووصل الراحل منهم إلى الشقاء المقيم، وفتك بافرنس كافر الكفار، ومشيد النار، من يده في الإسلام كما كانت يد الكليم، وافترت النصرة عن ثغر عكا بحمد الله الذي يسر فتحها، وتسلمتها الملة الإسلامية بالأمان وعرفت في هذه الصفقة ربحها.
وأما طبرية فافترتها يد الحرب فأنهرت الحرب جرحها.
فالحمد لله حمداً لا تضرب عليه الحدود، ولا تزكى بأزكى منه العقود، وكأنه بالبيت المقدس وقد دنا الأقصى من أقصاه، وبلغ الله فيه الأمل الذي علم أن يحصيه وأحاط بأجله وأقصاه، لكل أجلٍ كتاب، وأجل العدو هذه الكتائب الجامعة، ولكل عملٍ ثواب، وثواب من هدى لطاعته جنات نعيمه الواسعة، والله المشكور على ما وهب، والمسؤول في إدامة ما استيقظ من وجد الإسلام وهب.
وقد توجه من جانبه الأمير رشيد الدين دام تأييده في إهداء هذه البشرى نيابةً عن الخادم، ووصف ما يسره الله لأوليائه من العزائم. والبلاد والمعاقل التي فتحت هي: طبرية، عكا، الناصرة، صفورية، قيسارية، نابلس، حيفا، معليا، القزلة، الطور، الشقيف، وقلاعٌ بين هذه كثيرة. والولد المظفر تقي الدين بصور وحصن تبنين. والأخ العادل سيف الدين نصره الله قد أوفت بالوصول من عنده من عنده من العساكر فينزل في طريقه على غزة وعسقلان، ويجهز مراكب الأسطول المنصور ويكثر عددها، ويسير بها إلى ثغر عكا المحروس ويشحنها بالرجال ويوفر سلاحها وعددها، والنهوض إلى القدس فهذا أوان فتحه ولقد دام عليه ليل الضلال، وقد آن أن يستقر فيه الهدى مشكور الإحسان، إن شاء الله تعالى. 519